جمال عبد الناصر .. وهزيمة يونيو 1967
بقلم : د/ صفوت حاتم
التاريخ المشترك هو الذي يصنع هوية الأمة .. وهو الذي يشكل وعي وضمير وعقل المواطن ..
وبقدر ما تتناقل الأجيال وقائع تاريخها المشترك : بحلوه ومره .. بإنتصاراته وهزائمه .. بقدر ما تكون أواصر الانسجام والانصهار قوية بين أفراد الوطن الواحد .
و الإعتداء على التاريخ المشترك للأمة هو جريمة كبرى لا يمكن التهاون معها .
فالنتيجة الطبيعية لهذا العدوان هي تفكيك العلاقة بين المواطنين كأفراد من ناحية
وتفكيك العلاقة بينهم وبين أمتهم ودولتهم وهويتهم من ناحية أخرى .
وللأسف الشديد .. جرت في العقود الأربع الفائتة أكبر عملية تشويه لتاريخنا المعاصر ..
وطالت عملية التشويه والتزييف كل الثوابت التي تربت عليها أجيال متعددة .. وكل الشخصيات الوطنية التي أعطت للوطن حياتها .. وضحت في سبيل ذلك بكل نفيس ..
ومع إنتشار مواقع التواصل الإجتماعي والفضائيات العشوائية ، إزداد الخطر على صورة وهوية الأمة ..
بسبب التشكيك والتشويه المستمر الذي يرتكبه غير المتخصصين من كتاب التاريخ وكتاب الدراما التليفزيونية والسينمائية .
وأصبح عاديا ..والحال هكذا .. أن يكتب من يريد ..ما يشاء ..دونما حسيب أو رقيب من أي جهة علمية معتمدة وكفؤة ..
وأصبح التهرب من ذكر الوقائع التاريخية أو إخفاء بعضها .. وسيلة للتعيش والظهور ينتهجها بعض مدعي الكتابة التاريخية أو الكتابة الدرامية .
والنتيجة الطبيعية لتلك ” الفوضى ” أن يردد الجمهور معلومات خاطئة أو مبتورة .. يدسّها البعض في كتاباته ..
لتصبح تلك ” الأكاذيب ” بمرور الزمن مستقرة وثابتة في الذهن الشعبي .. بسبب كثرة ترديدها والإلحاح عليه .
ويساعد على تلك الفوضى ، أعلام مرئي ومكتوب ، يحكمه توجهات رجال أعمال .. أو سلطة سياسية عاجزة .
تشكل الثورات الوطنية لأي أمة .. هدفا دائما للتشويه من أنصارها واعدائها .
والثورات المصرية المعاصرة كانت دوما هدفا ” للتشويه ” والتزوير .
ويجري هذا التشويه بدوافع من المصلحة الخاصة والانحيازات السياسية والفكرية.. ووعي الإنسان نفسه بقيمة تاريخه الوطني ..
وبإمتلاكه لحس نقدي وشجاعة أدبية تمكنه من قراءة الوقائع التاريخية بموضوعية ..ومحاكمة شخصيات التاريخ بحسب الدور التاريخي الذي لعبوه في تاريخ شعوبهم من انجازات …
دون النظر الى ما قد يعتري حياتهم الخاصة من أخطاء انسانية أو مواطن ضعف في شخصياتهم .
ولنأخذ على سبيل المثال لنوعية من الكتابات الذكية والعاقلة لحوادث التاريخ ما فعله الأستاذ ” عباس العقاد ” في ” كتاباته عن العبقريات ” الاسلامية ..
فقد زاوج بين منهج الكتابة التاريخية التي تهتم بالوقائع وصحتها من انجازات واخفاقات وبين منهج التحليل النفسي للشخصية .. أو ما يسميه ” مفتاح الشخصية ” .
فإنجازات الخليفة ” عمر بن الخطاب ” في حماية الدولة الناشئة ثم في اتساعها وتمددها .. هي وقائع تاريخية لا يمكن الاختلاف عليها .
ولكنها تمتزج مع مفتاح شخصيته كما حدده ” العقاد ” في ” العدل الإجتماعي ” واعطاء كل ذي حق حقه دون خوف أو تفريط ..
اللهم إلا الخوف من الله .. أو الخوف من التفريط في حقوق الضعفاء والفقراء .
والقائد العسكري الكبير ” خالد بن الوليد ” تمتزج انجازاته وعبقريته في الحروب والفتوحات الاسلامية ..
مع مفتاح شخصيته في التحليل النفسي الفردي وهو ” الشجاعة ” والإقدام في الحروب ..
ولا يتوقف ” العقاد ” كثيرا عند عن بعض الوقائع الثابتة في تاريخ ” خالد بن الوليد ” كقتل ” مالك بن نويرة ” والزواج من امرأته . في حروب الردة ..
أو مغادرته ساحة المعارك بدون مبرر والذهاب لبيته للاجتماع بزوجته ..
وهي كلها من حوادث التاريخ المكتوبة بكتب السيرة ..وأثارت في حينها جدلا كبيرا وتشويشا عظيما في صفوف الأمة الاسلامية الناشئة .
وما حاجتنا اليوم الى مثل تلك الوقائع الشخصية ..ومالذي تستفيد منه الأمة من ذكرها ؟؟!!..
ولعلنا سمعنا وشاهدنا في الايام الاخيرة كيف أن كاتبا وأديبا شهيرا وصف القائد البطل ” صلاح الدين الأيوبي ” الذي حرر القدس من الصليبيين بأنه ” أحقر شخصية في التاريخ ” !!!
ورأينا وسمعنا كيف أن اعلاميا شهيراً .. من الذين يتباهون بثقافتهم ومعرفتهم بكل شيء ، ينفي حدوث ثورة عرابي وينكر وقوفه أمام الخديوي توفيق بالشكل الذي ذكرته كتب التاريخ
ويعتبر ان ما ذكرته كتب التاريخ عن وقفة عرابي أمام الخديو توفيق محض كذب وتضليل !!
صحيح أن كل الثورات في العالم لها أعداؤها .
والثورة الفرنسية التي غيرت معالم فرنسا وأوروبا بتأثير مبادئها وأهدافها وحروبها .. نالت هي الأخرى كثير من المعارضة والانكار .
ولعل كتاب ” الثورة الفرنسية ..وروح الثورات ” للمؤرخ والمفكر الفرنسي ” جوستاف لوبون ” ..
هو خير مثال على هذا النوع من الكتابات التي تنظر للثورات بإعتبارها خروجا على ناموس الطبيعة .. ولا ينتج عنها سوى الدمار والدم والتخريب .
والمدهش ان مثل هذه الكتابات لا تلقى أذانا صاغية من الأجيال المتعاقبة في فرنسا ..
التي تشبعت بروح الثورة الفرنسية ومبادئها في الحرية والإخاء والمساواة وقيم الجمهورية المدنية الحديثة .
وهكذا بقي كتاب ” جوستاف لوبون ” المعادي للثورة الفرنسية ..مجهولا ..حتى في أوساط المؤرخين والمتعلمين والمواطنين العاديين في فرنسا .
واحتفلت فرنسا كلها عام 1998 بالمئوية الثانية للثورة الفرنسية .
وهاهي روسيا تتأهب خلال أيام للإحتفال بالعيد المئوي للثورة البلشفية عام 1917 .. رغم انتهاء الشيوعية من روسيا ..وتحولها للرأسمالية ..
واختفاء الحزب الشيوعي من ساحة الفعل السياسي بجمهورية روسيا .
أما في مصر ..فالوضع مختلف !!
فلازال هناك من ينتقم من تاريخنا الوطني عن قصد أو عن جهل !!
ولنأخذ مثالا على ذلك ثورة عرابي ..
فبعد هزيمة الثورة العرابية .. واحتلال الأنجليز لمصر ..
قام أعوان الانجليز والخديوي توفيق بتوصيف ” العرابيين ” بالخونة والكافرين والمارقين عن الملة والخارجين على الحاكم الشرعي .
وصاروا يطلقون على ماحدث ” هوجة عرابي ” .. حتى ترسخ في ذهن أبناء البلد أن ثورة عرابي لم تكن بحال من الاحوال ثورة على الظلم والاستبداد
بل هي هوجة .. وفوضى ..وتمرد وعمل صبياني تسببت في أضرار بالغة .. وأتت بالإحتلال الانجليزي .
وقام كثير من المؤرخين المتأثرين بنفوذ الخديوي توفيق وأمواله بالتأثير على عقول شباب الأمة حتى تفتر عزيمتهم ويتوقفوا عن حركة الجهاد ضد المستعمر البريطاني .
وبنفس الأسلوب .. كان هناك أعداء لثورة 1919 وزعيمها سعد زغلول .. وكان هؤلاء يرددون أن سعد زغلول رجل مستبد برأيه ..
وأنه قام بثورته لحساب الإحتلال البريطاني . ولدرجة أنه أشيع عنه أنه كان صنيعة اللورد كرومر
وهو الذي زوجه من كريمة مصطفى باشا فهمي رئيس الوزراء ورجل الإنجليز في مصر .. وأن ثورة 1919 قامت بمباركة الانجليز !!
ولكن قوة شخصية سعد زغلول .. وما كان يتمتع به من الصدق والوطنية والجاذبية وقوة الحجة .. فقد نجح في التغلب على معظم هذه الإدعاءات .
ولكن مع مضى الوقت ..وضراوة الاحتلال الانجليزي .. ووجود عملاء للاحتلال ..
ومع التفكك الذي لحق بحزب الوفد وقياداته بعد موت الزعيم سعد زغلول .. فقد توقف زخم ثورة 1919
ورغم ما كتب أو قيل عن شخصية سعد زغلول ..
فلا يمكن انكار الدور الوطني الكبير الذي لعبه في إلهاب قلوب المصريين وإشعال الحماس والثورة على المحتل الانجليزي في كل مدن وريف وقرى ونجوع مصر.
ثورة يوليو 1952
وبالإسلوب نفسه حدث نفس الشيء مع ثورة يولية 1952 .
فأعداء الثورة من رجال الاحزاب السابقة والأغنياء من الرأسماليين والاقطاعيين وكل المنتفعين من الملك وحاشيته ..
أو المنتفعين من السفارة البريطانية وبيوت المال الأجنبية لا يرون ما تحقق من انجازات في عمر الثورة القصير ..من تحرر مصر ..وجلاء المستعمر ..
والقضاء على رأس المال الاجنبي المسيطر على الاقتصاد .. والقضاء على الاقطاع .. وتأميم شركة قناة السويس التي كانت بمثابة دولة داخل الدولة ..
وبناء السد العالي والمصانع ..وتطوير نظم الري والتحكم في نهر النيل .
ان اعداء الثورة لا يرون كل هذه اﻻيجابيات .. ولا يرون سوى حل الاحزاب وهزيمة يونيو 1967 .
وعلى الرغم من قيام جمال عبد الناصر بإعادة بناء الجيش المصري على أسس حديثة بعد الهزيمة ..وتطعيمه بأقدر وأكفأ القيادات
: كمحمد فوزي ..وعبد المنعم رياض ..وسعد الدين الشاذلي ..ومحمد عبد الغني الجمسي ..وعبد المنعم واصل ..ومحمد علي فهمي ..
ومدكور أبو العز ..وسليمان مظهر ..وأحمد اسماعيل ..ومحمد أحمد صادق …
وعشرات غيرهم من القادة العسكريين الذين ثبتهم عبد الناصر في مواقعهم ..قبل وفاته .
ورغم كل ذلك.. يقف البعض.. اليوم .. عند لحظة الهزيمة ..ولا يرى لحظة بناء الجيش من جديد ..
ولا يرى كل الصعوبات المادية والدولية في عملية اعادة تسليحه وسط ظروف دولية صعبة .. واعداده للمعركة المرتقبة من خلال حرب الاستنزاف المجيدة
والتي كانت ” بروفة ” عملياتية لمعارك العبور عام 1973 .
ومن المقولات الشائعة في الفكر السياسي المناوئ لثورة يوليو .. القول ان هزيمة يونيو 1967 قد أدت الى انهيار الاقتصاد المصري بسبب ظروف الحرب واعادة بناء الجبش
والحقيقة المرّة أن معظم الكلام الذي يدور حول كفاءة الاقتصاد المصري خلال الحقبة الناصرية .. مقارنة بما كان قبلها في العهد الملكي ..
أو ما تم بعدها في الحقبة الرأسمالية التي بدأت عام 1974 بسياسة الانفتاح الاقتصادي ..حتى الآن .
هو كلام مرسل وغامض لا يستند على مراجع علمية محترمة .. واحصائيات دقيقة ..وقريبة من الواقع ..
انه كلام ..في غالبيته ..من قبيل العواطف والانفعالات .. يعتمد على مايردده البعض من حوادث ووقائع مجهولة المصدر ..
لا تسندها أي دراسات أو مراجع علمية ..على الرغم من توافر المئات من هذه الدراسات ( نموذج لهذه الكتابات ما كتبه أنيس منصور ومصطفى محمود ) .
وندخل في الموضوع .
قدرت خسائر الإقتصاد المصري نتيجة العدوان الإسرائيلي , في الدراسة العلمية الوحيدة المقدمة في هذا الشأن التي قام بها ” الدكتور ابراهيم العيسوي ” و ” علي نصار ” ,
بدلالة الفرق بين مجموع الدخول التي كان ممكنا أن تتحقق في الأحوال العادية , ومجموع الدخول التي تحققت فعلا في أحوال الحرب وشبه الحرب .
وتوصلت عبر خمس تقديرات بديلة الى أن الخسائر الإقتصادية التي ألحقتها تراوحت بين 17 مليار جنيه في الحد الأدنى , 24 مليار جنيه في الحد الأقصى
( ابراهيم العيسوي وعلي نصار , محاولة لتقدير الخسائر الإقتصادية التي ألحقتها الحروب العربية الإسرائيلية لمصر منذ عدوان 1967 , في المؤتمر السنوي للإقتصاديين المصريين – ) .
على أي حال :
يهمنا هنا في هذه المقالة دراسة الفترة التي تلت هزبمة يونيو ..والجهد الاستثنائي الذي بذله جمال عبد الناصر في إدارة الدولة المدنية لأهداف المجهود الحربي ..
وتهيئة المجتمع لمعركة التحرير .
والدراسة المفيدة والعميقة التي قام بها الباحث الروسي ” ف. أ . لوتسكيفتش ”
والصادرة عن دار الكلمة للنشر بعنوان ” عبد الناصر ومعركة الاستقلال الاقتصادي 1952 – 1971 )
والسؤال الذي انطلق منه ” لوتسكيفيتش ” هو : كيف تعامل جمال عبد الناصر مع نتائج الهزيمة العسكرية على الوضع الاقتصادي ؟؟
كيف أثرت الهزيمة على الإقتصاد المصري
في ظل هزيمة عسكرية فادحة كتلك التي حدثت عام 1967 كان من الممكن للأقتصاد المصري أن ينهار تماما ..
وهنا قام عبد الناصر بأهم وأنجح معركة في تاريخه : إدارة الإقتصاد المصري في ظل أعباء الحرب .. وأهمها إعادة بناء الجيش .. من الصفر تقريبا
ولتبين حجم الأعباء التي قام بها العدو لتخريب الإقتصاد المصري نطالع ما كتبه ” لوتسكفتش ” في دراسته المهمة .. حيث نراه يقول :
” : ” من الناحية العملية أحبط العدوان الإسرائيلي في يونيو / حزيران تنفيذ الخطة الثلاثية . فقد حدث نتيجة لإحتلال إسرائيل لشبه جزيرة سيناء
أن فقدت مصر آبار بترولها وكذلك مناجم المنجنيز . وكنتيجة للقصف الإسرائيلي المركز على جبهة قناة السويس ,
أن أصيبت أكبر مصانع تكرير البترول وبعض المنشآت الهامة في مدن السويس والإسماعيلية وبورسعيد .
هذا بالإضافة الى أن زيادة الإنفاق العسكري أدت الى نقص إستثمار رؤوس الأموال في المشروعات الصناعية .
ونتيجة للأسباب السابق ذكرها , بلغت نسبة الزيادة في الإنتاج الصناعي في عام 1967 أقل من 3 % , وكانت قدبلغت الزيادة 6 % عام 1966 قبل العدوان .
الإنتاج الصناعي :
وفي الفترة من عام 1968 – 1970 نتيجة لجهود الدولة في إستغلال جميع موارد البلاد , تم التغلب بصورة واضحة على الآثار الإقتصادية للعدوان الإسرائيلي .
وبلغت نسبة الزيادة في الإنتاج الصناعي ( حسب الأسعار السائدة ) في عام 1968 ( 7 % ) . وفي عام 1969 ( 9.2 % ) . وفي عام 1970 ( 8.2 % )
وفي عام 1971 ( 10.7 % ) . !! ( علامات التعجب أو الإعجاب من عندي . ص. ح )
في مجال التنقيب عن البترول :
يضيف ” لوتسكيفتش ” :
” وقد أمكن تعويض النقص في إنتاج البترول نتيجة فقد آبار بترول سيناء عن طريق تشغيل الآبار البحرية بحقل مرجان في خليج السويس .
فبعد أن كان إنتاج مصر من البترول قبل يونيو / حزيران 1967 حوالي 9.5 مليون طن في السنة , زاد الإنتاج الى 14 مليون طن عام 1969 ثم الى 16.4 مليون طن عام 1970 .
سياسة التمويل الذاتي للمصانع :
وببداية تشغيل بعض المصانع التي تنتج أجزاء قطع الغيار اللازمة لسيارات النقل والركوب التي يتم تجميع أجزائها في مصر ,
فقد زادت نسبة التصنيع المحلي لهذه الأجزا .ء الى 70 – 80 % .
وقد أستحدث نظام التمويل المالي الذاتي لمصانع الدولة والذي ينص على أن يقوم كل مصنع أو مؤسسة صناعية بإستثمار إحتياطاتها لتنفيذ التوسعات اللازمة لها
وتطوير وسائل الإنتاج وتطبيق النظم التكنولوجية الحديثة .
وقد كان 55 % من جملة الإستثمارات في قطاع الصناعة عام 1971 / 1972 من التمويل الذاتي للمصانع .
ويعتبر هذا النظام جزءا من معالم الإصلاح الإقتصادي والمالي الذي يهدف الى التوسع في الصادرات وتحسين إقتصاديات مصانع القطاع العام . ( لوتسكيفتش , مصدر سابق 54- 55 ).
وهكذا نرى أنه رغم الصعوبات الشديدة التي واجهها الإقتصاد المصري بسبب العدوان إلا أنه إستطاع أن يمتص ببطولة فائقة تحديات العدوان على الإقتصاد
وأن يوسع من إنتاجه الصناعي والتعديني بما يفوق – حتى – سنوات ما قبل العدوان , كما رصد ” لوتسكيفتش ” .
فلقد نتج بسبب العدوان تحويل جزء كبير من الميزانية للإنفاق على التسليح العالي , رغم النقص في الموارد القومية الناتجة عن توقف المرور في قناة السويس
وضآلة العوائد القادمة من السياحة وضرب وتصفية المصانع المصرية الموجودة في منطقة قناة السويس والنتائج المترتبة على تهجير مدن القناة الثلاث الى داخل البلاد
( وهي عملية هجرة داخلية على درجة عالية من التعقيد والتكلفة وتحتاج الى تقييم مفصل ليس هنا مكانه ) .
أين كنا .. وكيف أصبحنا ؟؟
مصر وكوریا الجنوبیة .. الماضي والحاضر ..
يذكر الباحث الإقتصادي احمد السيد النجار في كتابه عن ” الاقتصاد المصري وتجربة يوليو ” هذه المقارنة الذكية بين مصر وكوريا الجنوبية .. الأمس واليوم .. فيقول :
“في منتصف الستینیات، بلغ الناتج المحلي الإجمالي نحو ٥.١ ملیار دولار، وبلغ نصیب الفرد منه173 دولارا عام 1965.
في حین بلغ الناتج المحلي الإجمالي الكوري الجنوبي في العام نفسه نحو 3 ملیارات دولار، وبلغ متوسط نصیب الفرد منه نصیب الفرد منه في كوریا 105 دولارات.
وحتي بعد حرب 1967 بكل آثارها السلبیة علي الاقتصاد المصري فضلا عما أدت إلیه سیطرة الدولة الصهیونیة
علي حقول البترول المصریة وعلي جانب مهم من مناجم التعدین المصریة، كان الناتج المحلي الإجمالي المصري یوازي أربعة أخماس نظیره الكوري في عام 1970.
وقد وصل الناتج المحلي الإجمالي المصري في حقبة مبارك ..ودون أي حروب خارجية .الى ما لا یزید على ٢٢.٥ %من نظیره الكوري الجنوبي عام ٢٠٠٠ .
أما الصادرات المصریة فإنها لاتزید علي 7.2 % من قیمة الصادرات الكوریة الجنوبیة في العام نفسه طبقا لبیانات البنك الدولي في تقریره عن التنمیة في العالم عام 2002.
اكتفي بهذه المقارنة المؤلمة لتوضیح الفرق بین ما صنعته ثورة یولیو 1952 وما صنعه المرتدون علیها،
وهي لقطة ختامیة في محاولتنا لإعادة تركیب صورة الاقتصاد الناصري قبل وبعد الهزیمة .
الصورة الختامية
لعلنا أسهبنا أكثر من اللازم في سرد المؤشرات السابقة وما تحتويه من أرقام ومعدلات وتفاصيل . وكان هدفنا من ذلك تفحص وقائع الإتهام للناصرية ,
ولعبد الناصر بالذات , بالنكوص والإرتداد بعد هزيمة يونيو / حزيران 1967 .
وقد تكون الأرقام والمعدلات مفاجأة للبعض من الذين يستسهلون القاء التهم دون تمحيص أو تدبر
لما يمكن أن تصنعه التعميمات والتبسيطات النظرية من آثار مخربة على الفكر وعلى التاريخ .
ولكن تبقى كلمة في نهاية هذه الدراسة ( غير الناجزة ) هي أن تجارب التحرر الوطني الكبرى تتعرض الى صعوبات وعقبات وهزائم ( وهذا هو عظمتها الكبرى في التاريخ البشري ).
وقد تجبر على التوقف أو التراجع خطوات الى الوراء ، ولكنها ما تلبث ان تلتقط أنفاسها وتعاود الصمود والهجوم من جديد محتفظة دوما بنقاء ووضوح أهدافها الإستراتيجية .
وهو ما يميز التجارب الأصيلة من التجارب المزيفة العابرة . ويميز أيضا الزعماء الحقيقيين من الزعماء المزيفين .
وفي حالة التجربة التي ناقشناها هنا وهي تجربة الهزيمة العسكرية عام 1967 ,
فقد إتضح للجميع – بعد كشف الوثائق والمواقف الحقيقية – حجم التضليل الذي مارسته القوى المعادية من أجل تشويه التجربة العربية التي قادها عبد الناصر .
لقد كان المميز الحاسم لعبد الناصر – في رأيي – هي قدرته المذهلة على تحويل التحديات التي تواجهه الى إنجازات تضاف الى رصيد شعبه قبل أن تضاف الى رصيده الشخصي .
ان المعارك التي خاضها كانت كثيرة ، وربما كانت الخسائر ايضا ،
ولكنه كان قادرا ومصمما على عدم الإنحناء أو الحياد عن طريق الإستقلال الوطني ومصالح الجماهير العربية الكادحة التي أحبته وأعطته مختارة كل عاطفتها حتى هذه اللحظة .
تحية لروح هذا البطل العربي في ذكرى وفاته ..
مفكر قومي