بين ضرورة الحوار وحوار الضرورة
بقلم : محمد فياض
” أتعلمون لماذا بيوت العرب في غاية النظافة بينما شوارعهم على العكس من ذلك ؟ .. السبب أن العرب يشعرون بأنهم يملكون بيوتهم لكنهم يشعرون أنهم لايملكون أوطانهم ..”
جملة بليغة وصياغة تستوقفنا أمامها طويلاً للإمعان في مفرداتها التي صيغت بها دون غيرها من مرادفات اللغة العربية الأغنى بمرادفاتها المتجددة والمتجذرة والمنحوتة في كل الأزمنة
وما يستوقفني عند تلك العبارة التي حيكت وتصلح لمشروعٍ حواريٍ جاد ونعوزه أن كاتبها واحد من أهم الكتاب روبرت فيسك والذي ناهض السياسات البريطانية لصالح القضايا العربية
وقد عاش في بيروت وبين العرب لثلاثين عاماً مراسلاً للإندبندنت البريطانية في الشرق الأوسط .
إن العرب يشعرون بأنهم يملكون بيوتهم ويشعرون أنهم لايملكون أوطانهم .
وهنا قضية الشعور الجمعي والمتواتر والموروث قد شكّل أزمة تنامت حتى صارت سلوكاً طبيعياً وأصبح الشعور بالوطن مؤقتاً تأقيت توافر الحد الأدنى من الخبز والأمن ولايهتم _ ربما _ الشعب العربي الإهتمام الكافي
لدفع الأرواح رخيصة للذود عن الوطن لتحقيق الأمن وصناعته مالم يتحقق له الخبز أولاً … ونحن هنا لانبتعد كثيراً عن مفردات ماصاغه روبرت فيسك وهو يكتب دون قصد مشروعاً
يقبل الحوار الجاد حوله عربياً .. شعبياً ونخبوياً .. ولم ننفصل أيضاً عن القرآن الكريم .. ( الذي أطعمهم من جوعٍ وٱمنهم من خوف ) .
وهنا تفرض الحالة العربية كلها نفسها على مشرحة الجراحة التجميلية .. تبحث عن جراح ماهر يعالج التشوهات ويستأصل قبلها الأورام السرطانية الخبيثة التي أنتجها الحكم العربي
لبواعث أكثر ماتكون بعيدة عن مصالحنا الجمعية وأقرب إلى تنفيذ عقوبة أجنبية في بلادنا وضد كل شعوبنا .
وبأيادينا نحن .. ثلة من الحكام من المهمومين بذواتهم تحت عناوين مختلفة مختلقة لاتنتمي في تفسيراتها لثمة علاقة بتلك العناوين .
سواء كانت العناوين هذه من فصل نظام الحكم في كتاب النظم السياسية من الجمهوري للملكي أم من فصل الحقوق الواردة في كتاب القانون الدولي الإنساني أو حتى إتفاقيات جنيف لمعاملة الأسرى .
ربما يذهب القاريء إلى أنني قد أصابني الشطط في هذه الكتابة وأن تجاوزاً وطنياً أو خَبَلاً ذهنياً قادني أو قذف بي خارج المستقر من مدارات الأنساق الفكرية خاصة في ماهية الأرض والسلطة والشعب .. ماهية مفردات الدولة القُطرية .
لكن إذا توقفنا قليلاً أمام ماهية الخيال .. وانتهينا معاً إلى أن كل الإبداعات البشرية كانت في جنون الخيال المطلق وانتقلت إلى الخيال الإفتراضي ثم إلى الواقع
وأصبحت نظريات علمية وإبداعات لاينكرها أحد وكانت النظريات الإجتماعية عند روسو وكانط وفولتير وباسكال وهيجل من ناتج الخيال والشطط لأجل التنوير ومصلحة البشر ..
لكن الفارق كبير بين النظريات والتطبيق .. وهاهي أوروبا تعود إلى إلقاء نظرة جادة مستقبلية لجهة ماقبل النظريات والتنوير وتتصاعد ممارسات العنصرية في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وتجد النيونازية طريقها المتجلي في أوكرانيا وبدعم أمريكي مفضوح .
والسؤال : هل هذا الشأن أوروبي أطلسي وفقط ؟ بالقطع لا .. بل ممتد ومتجذر في بلادنا وأنتج الكثير من النتوءات الإجتماعية الشاذة في البداية بإسهامات نظم الحكم الجمهورية والملكية على السواء
فتم إنتاج أكثر من 130 تنظيماً مسلحاً خارج الجيوش الكلاسيكية تمترست خلف عباءة الدين وتناولت السلاح بيد والتمويلات باليد الأخرى وتم تذليل كل الصعاب والفتك بكل قواعد السفر والإنتقال ..
التأشيرات والسيادة لممارسة الحرب غير النظامية ضد جيوش نظامية خدمة للعم سام وبالمجان لكن فائض القوة الإرهابية وفرض أعرافها على النظام الدولي صاغ قواعده الإرهابية لتستعين بهم الآن واشنطن في أوكرانيا وسوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا ومصر .. مرتزقة الحروب .
فنقف جميعاً في قلب المعركة .
ولكل معارك تجارها .. طبقاتها والعالم لاشك مقبل على تغييرا جذرياً في بنية النظام الدولي وتتعرض النيوليبرالية الاقتصادية لهزة عنيفة
قد تستمر في عقر دارها لعدة سنوات قادمة والأمر يلقي بظلاله المعتمة على إقتصاديات الدول الفقيرة ذات الموارد المحدودة وذات الموارد المنهوبة .
ولا أعتقد أن بلادي فقيرة بالقطع لسنا فقراء لندرة الثروات الطبيعية أو لندرة الإمكانات أو العقول .. بل نحن فقراء لعقم القدرة أو الإرادة الجادة
لجهة الإنفلات من سيطرة الخارج على الداخل فقراء ربما أيضاً للإصرار على إستنزاف الحاضر لتشويه مستقبل بفعل نخبة قديمة من الطبقة المدنية
التي يستعين بها نظام الحكم وقد قدمت كل مالديها من فائض ناتج الأنيميا الحادة جدآ في طرائق التفكير ولست أدلل على ذلك فقط بأن يتلفظ وزير التموين في حكومة في مصر ويرد على النواب وفي برلمان مصر ( بياخد دعم وبيتأنعر وعاوز جودة في السلع ).
ويتلفظ رئيس مجلس النواب ( مالكم النهاردة) .والنواب يدقون كؤوس الخطر المحدق بالبلاد ووصوله إلى نفس درجة الحرارة التي أشعلت يناير 2011
ومن نفس البوابة ( رغيف العيش) .ومن قبلها أشعل نفس الرغيف يناير.77.
الوزير لم يخطيء لنحاسبه.أو لنطالب بمحاسبته فقد عبر عن فلسفة نظام حكم.ودشن مرة أخرى وليست أخيرة في اعتقادي أن السلال التي نستعين منها برجالات
لإدارة الملفات والدولة هي ذات السلال التي أسقطت الحكم من قبل.
بل وذات السلال التي لخصها عبد الناصر لهواري بوميدين عندما سأله الأخير عن سبب النكسة في يونية 67 .
وفي مثال وزير تموين مصر لو أن أحداً أخبره أنه موظفاً عند المصريين لتخير مفرداته لكنه أحد تروس العجلة التي تصنع من
الشعب في بلادي ما انتهى إليه روبرت فيسك في عباراته الجامعة الدقيقة أن الشعب يشعر أن البيت ملكاً له.ويشعر أن الوطن ليس وطنه.والشعور يسبق الفكرة والفكر وبالتالي يسبق الحركة..
وعندما أطلق السيد عبد الفتاح السيسي فكرة الذهاب إلى حوار وطني..وهرول الجميع.كل ألوان الطيف السياسي رغبة في إنقاذ البلاد والإسهام في إزاحة عثراتها.
وتمضي قرابة الشهور العشر ولم يبدأ الحوار..وهذا لايقلقني لقناعاتي التي أبني عليها.إن الأمر كله كان يحتاج إلى الكثير من التجهيزات والتحضيرات
خارج بناية مجلس الحوار ربما تطال تجهيزات تمس نصوص دستورية تعلن عن حاجتها للتغيبر.وماجرى حتى الآن من
تشكيل لجان تعلوها لجان تعلوها لجان تعلوها لجنة..وتاريخ اللجان في بلادي لاينفصم عن فلسفة تكوين الصناديق من حيث الغلاف والجوهر والغاية والغايات..المُعلَن والمسكوت عنه.
كان لزاماً أن نتساءل..ومازال لدينا الوقت :لماذا الحوار..؟
وهل هو حوار أزمة أم حوار مغاير..؟
هل حوار ضرورة.؟ .أم ضرورة للحوار..؟
إن كان حواراً من أزمة.وحوار الضرورة..فهنا يتحدد مسائل أو مسألة بذاتها على طاولة الحوار..
وهذا يجرنا في حوار الأزمة إلى تهيئة الأجواء لتنفيذ توصيات ناتج الحوار لحل الأزمة أو سلوك سبيل الحل والتخفيف من وطأتها على الشعب..السيد..
وألا يجلس على طاولة الحوار هنا شلل من المحاسيب والهواه بل المتخصصون الوطنيون وبامتياز..
أما إن كنا نذهب إلى ضرورة الحوار لغاية محاولة لخلق حالة حوار بديلاً عن البدائل الأخرى وسعياً لجهة وضع البراهين على دمقرطة الحكم وفلسفة النظام..
فهنا ربما يكون لائقاً تشكيل اللجان ووضع كل العناوين على الطاولة من كيفية لف محشي ورق التوت إلى كيفية
توريط الحكومة في التعالي على السيد صاحب السيادة والذي ربما يقرر وفجأة أن يهتم بنظافة الشوارع اهتمامه بنظافة بيته.
وعندما يحدث سيكون قد تخلق عنده الشعور بالوطن وطنه.وتذهب طبقة الحكم وأذنابها من قماشة وزير تموين مصر
إلى حيث يليق بها.ليغير روبرت فيسك عباراته التي لخصت حالنا .
وما مسلك داسيلفا ببعيد فقد برهن أن ستة سنوات كانت كافية لخلع 33 مليون مواطن في بلاده من تحت خط الفقر وإدخالهم للطبقة المتوسطة
ولم يعتمد برنامجاً دون الذهاب إلى التعليم والبناء منه.وكل مؤهلاته أنه رجلاً وطنياً واثقاً في قدرات شعبه وموارد
بلاده وكَسَر طوق التبعية.واتجه ببلاده عكس ما نتجه في مصر.
ونحن لم نذهب بعد لا إلى حوار الضرورة.ولا إلى ضرورة الحوار..
بل إلى مزيد من التبعية لصندوق النقد..يدهمنا الوقت وتصير الأطروحات ذاتها للحلول صعبة مالم نذهب إلى
حوار الضرورة ونقبل كسر التابوهات المقدسة في أوراق الحكم وندفع جميعاً تكاليف عادلة في زمن العثرة.
كاتب سياسي مصري